حكمة الزمن المتكرر: عندما تحدثنا الروح عن الماضي
في زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتتعقد مسارات الوجود، يجد المؤمن نفسه أمام تساؤلات عميقة حول طبيعة الزمن والذاكرة. فالإنسان، بفطرته التي وهبها الله إياه، يشعر أحياناً بأن ما يعيشه اليوم قد مر به من قبل، وكأن الأيام تعيد نفسها في دورة أبدية.
الذاكرة الروحية والحكمة الإلهية
يخبرنا أحد المتأملين في أسرار الحياة أننا نعيش في زمن عشناه من قبل، لا كادعاء أو حكمة مجردة، بل كحقيقة يدركها القلب قبل العقل. فالروح، بما وهبها الخالق من بصيرة، تحتفظ بأرشيف خفي لا يطلع عليه إلا من أنعم الله عليه بالفهم.
وهذا ما نلمسه في حياتنا اليومية، حين نعبر شارعاً فنشعر أننا مشينا فيه من قبل، أو نسمع كلمة عابرة فتهتز لها قلوبنا كما لو أننا ننصت لجزء من حديث قديم. هذه اللحظات ليست مجرد صدف، بل آيات من الله تذكرنا بعمق الوجود وحكمته.
التجربة الإنسانية والعبرة
في التراث الإسلامي، نجد إشارات عديدة إلى أن الزمن ليس خطاً مستقيماً، بل دورات تحمل في طياتها العبر والدروس. فالإنسان المؤمن يدرك أن ما يمر به اليوم قد يكون امتحاناً جديداً لدرس سابق، أو فرصة أخرى لتصحيح مسار أو تطبيق حكمة.
وعندما نواجه لحظات الـ"ديجا فو"، تلك الرجفة التي تؤكد لنا أننا كنا هنا من قبل، فإنها ليست وهماً بل قصاصة نجت من عملية النسيان الطبيعية التي تحمي الإنسان من ثقل الذكريات.
الحكمة في التكرار
إن الله سبحانه وتعالى، في حكمته البالغة، قد يمنحنا فرصاً متعددة لنكون أفضل مما كنا، لنقول ما لم نقله، ولنختار ما لم نجرؤ على اختياره. فالمشاعر قد تسبق التجربة، والقلب قد يتذكر ما نسيه العقل.
وهذا ما يفسر شعورنا بالقلق حين نعاود خطأً نعرف في أعماقنا أنه سوء تصرف، أو خوفنا من أشخاص معينين دون مبرر ظاهر، أو حبنا السريع لآخرين لأن أرواحنا تعرفهم.
الاستقامة في مواجهة التكرار
المؤمن الحق يدرك أن هذه الظواهر ليست مجرد ألعاب نفسية، بل آيات تدعوه للتأمل والاستقامة. فإذا كنا نسير في رحلة ثالثة أو عاشرة، فعلينا أن نستفيد من هذه التجربة لنقترب أكثر من الحق والعدالة.
وسواء كنا نسترجع الماضي أم نعيش نسخة محدثة من أنفسنا، فالحقيقة أن هناك شيئاً أعمق من مجرد الذكرى يقودنا كبوصلة تشير إلى ما كناه وما يجب أن نكونه. هذا هو سر الوجود، كوننا لا نبدأ من الصفر أبداً، ولا نصل إلى النهاية قط، لكننا نتحرك محملين بحكمة الماضي ومتطلعين لرحمة المستقبل.
وفي النهاية، يبقى السؤال الأبدي الذي طرحه الإنسان عبر التاريخ: لماذا يبدو كل شيء كأنه حدث من قبل؟ ولماذا يصر القلب على تذكر ما نسيناه؟ ولعل الإجابة تكمن في إيماننا بأن الله قد وهبنا هذه القدرة لنتعلم ونتطور ونقترب منه أكثر في كل مرة.