دروس من المطر: التخطيط الحضري في ميزان الابتلاء
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين الذي جعل من الماء كل شيء حي. لقد شهدت منطقة بلاد الشام مؤخراً منخفضاً جوياً أظهر حقائق مهمة حول التخطيط الحضري والاستعداد للظروف الطبيعية.
المطر كاشف الحقائق لا صانعها
إن المنخفض الجوي الذي ضرب المنطقة لم يكن حدثاً استثنائياً خارج الحسابات المناخية، ولم تكن كميات الأمطار، رغم غزارتها، مفاجأة في منطقة اعتادت شتاءً متقلباً. لكن الصادم كان ما كشفه المطر من ضعف في البنية التحتية والتخطيط الحضري.
في أيام قليلة، أُغلقت شوارع رئيسية، وغمرت المياه أنفاقاً، وانهارت جوانب طرق، وتعطلت الحركة في مدن يُفترض أنها مُهيأة لمثل هذه الظروف. هنا يصبح السؤال ليس كم هطل من المطر، بل لماذا لم تحتمل مدننا هذا الابتلاء الإلهي؟
التخطيط في ضوء الشريعة والحكمة
إن الإسلام يدعونا إلى الأخذ بالأسباب والتخطيط السليم، كما قال تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة". والقوة هنا تشمل البنية التحتية القادرة على مواجهة التحديات الطبيعية.
الانهيارات التي وقعت والإغلاقات التي شُلّت معها الحياة اليومية لم تكن نتيجة قوة الطبيعة وحدها، بل نتيجة هشاشة بنيوية تراكمت عبر سنوات من التخطيط المرتبك والتنفيذ الضعيف وقلة المتابعة والصيانة.
دروس من التجارب الناجحة
لسنا الأمة الوحيدة التي تواجه أمطاراً غزيرة، ولا البلدان الوحيدة محدودة الموارد. في المغرب الشقيق، تُصمّم شبكات صرف مزدوجة وتُجرى صيانة إلزامية قبل الشتاء. وفي جنوب إسبانيا، حيث المناخ المتوسطي، يُمنع البناء فوق مجاري السيول قانونياً.
أما في التجارب الإدارية الناجحة مثل سنغافورة، فكل حادثة غرق شارع تُعامل كخطأ هندسي يُراجع ويُعاد تصميمه، لا كحادث عابر يُنسى.
الحلول العملية في ضوء المسؤولية الشرعية
إن المسؤولية الشرعية تحتم علينا العمل على إصلاح ما يمكن إصلاحه، ومن الحلول العملية:
أولاً: فصل شبكات الصرف الصحي عن مياه الأمطار تدريجياً، بدءاً بالمناطق الجديدة والحرجة.
ثانياً: إعداد خريطة دقيقة لمجاري السيول الطبيعية ومراجعة الأخطاء السابقة بشجاعة وصدق.
ثالثاً: صيانة استباقية معلنة لمصارف المياه قبل كل شتاء، مع تقارير شفافة للرأي العام.
رابعاً: محاسبة هندسية واضحة ومسؤولة، فغياب المحاسبة يعني تكرار المشكلة.
الخاتمة: المطر رحمة والإهمال بلاء
المطر نعمة من نعم الله تعالى، وليس عدواً. والمنخفض الجوي لم يفضح الطقس، بل فضح ما تراكم من ضعف في التخطيط والتنفيذ والإدارة.
إن الأمة لا تُقاس بكمية الأمطار التي تهطل عليها، بل بقدرتها على حماية أبنائها والاستفادة من نعم الله بحكمة وتدبير. وإن لم نحول كل شتاء إلى درس ملزم وكل أزمة إلى نقطة تصحيح، فسنبقى في دائرة مفرغة من التحديات المتكررة.
والله أعلم، وهو الموفق إلى سواء السبيل.